حلم التاريخ ويقطة الحداثة في البحرين

admin04/29/2017

83 6 دقائق

جزرٌ صغيرة يعود تاريخ الحضارة فيها إلى خمسة آلاف عام، تقع على مفترق طرق التجارة القديمة بحراً، والحديثة جواً، أهلها طيبون وهواؤها عليل، تكسوها أشجار النخيل وبين جنباتها شواهد لحضاراتٍ مضت، تكثر فيها المياه العذبة وتفيض لتختلط بمياه الخليج العربي التركوازية المحيطة بها… لذا سميت البحرين.

وصلت إلى صالة الصقر الذهبي في مطار دبي الدولي، وكنت قد وصلت إلى المطار مبكراً على غير عادتي، فمعي هذه المرة حقيبةٌ كبيرة نويت أن أملأها بالصوغة – هدايا السفر والحلويات البحرينية عودةً لأفاجئ الأهل والأحباب. توجهت إلى الصالة المملوكة لطيران الخليج، وقضيت فيها ساعتين رائقتين تناولت خلالهما وجبةً متنوعة وأنجزت بعض الأشغال على أحد أجهزة الكمبيوتر في مركز الأعمال. لم أكلف نفسي عناء التحقق من رقم مقعدي على الطائرة، لذا كانت المفاجأة السعيدة عندما ابتسمت المضيفة الحسناء واصطحبتني إلى مقعدي رقم A1في درجة رجال الأعمال، فهذا لعمري أفضل مقعدٍ في أي طائرة. قبل الإقلاع زارتني ذات المضيفة بمعدلات المزاج من تمرٍ وقهوةٍ عربية وعصائر، تسارعت الطائرة على المدرج فاسترخيت في المقعد الوثير واعتمرت السماعة وبدأت بمشاهدة فيلمٍ جديد من على شاشة الترفيه الكبيرة. ولأن التوقف عن مشاهدة فيلمٍ قبل انتهائه تترك في نفسي فضولاً تمنيت أن تطول الرحلة التي يقل زمنها عادةً عن الساعة.

اليوم الأول في البحرين

“ما هذا البرد المؤلم؟ هل أنا في البحرين أم في سيبيريا؟” لدى وصولي كانت السماء رماديةً كئيبة، ورياح باردة تصفعني من كل مكان، لقد وقعت المملكة تحت تأثير المنخفض الجوي الذي تأثرت به شقيقاتها الخليجيات، لكن تأثرها أكبر كونها جزيرةً مفتوحة تخلو من الجبال وغيرها من مصدات الرياح، “ما هذا الحظ” فكرت في الطريق إلى الفندق.

نزلت من سيارة اللكزس الفارهة، ودلفت إلى بهو فندق الريتز- كارلتون في ضاحية السيف، واصطحبني موظفان إلى غرفة الكلوب الفسيحة، “ربما حظي ليس بهذا السوء”. المنتجع هائل وبه الكثير من التشاطات الداخلية، فقررت أن أقضي اليوم في استكشافة.
هناك جزيرةٌ كاملة ملحقة بالفندق، بها في فيلات خضراء على الطراز الكاريبي، ومبانٍ ذات طابعٍ تراثي مرتبط بتاريخ البحرين، يربطها بالبر الرئيسي للمنتجع مسارٌ للجري. كنت أخطو على هذا المسار وارتجف، فاليوم ليس للهرولة، لكن فضول الاستكشاف لا يقاوم. وجبةٌ ساخنة ستدفئني”، ولا مانع من توابل وبهارات شبه القارة، فهذه يربطها بالبحرين تاريخٌ طويل من التجارة البحرية. دخلت مطعم نيرفانا بالفندق، والذي يطغى على تصميمه اللون الأحمر القاني، ولوحاتٌ ونقوش تكسو زواياه لتحاكي آثار ملوك المغول شمال الهند، فتذكرت تاج محل وزيارتي إلى أغرا شمال الهند قبل سنوات. قدّم لنا المطعم تشكيلةٌ من اللحوم الحمراء والدجاج وخيرات البحر، كانت مبهرة بالقدر الكافي لتشعرني بغنى الطعم، وطرية تذوب في الفم، ومحضرة بأسلوب الطهي طوال الليل السائد في شمال الهند.

في غرفتي وجدت تسليةً جديدة، مستلقياً فتحت الستائر وأغلقتها عدة مرات باستخدام الزر المجاور للسرير، ثم غفوت في فراشي المريح الدافئ والريح الصرصر تعصف بالخارج. ما أجمل النوم على معدة ملئانة ودافئة!
حافظت على إصراري على الاستفادة من زيارتي حتى وإن لم أبارح محبسي الراقي، فتوجهت إلى الصالة الرياضية لحضور حصةٍ جماعية، كان الحصة موجهةً بالكامل إلى عض ات البطن، وامتلأت القاعة بالمتريضين، لست وحدي في محبسي، ويبدو أن الجميع ينتظرون لحظة شروق الشمس من خلف الغيوم الرمادية، للتوجه إلى شاطئ الجزيرة المجاور بملابس السباحة.

بعد حصةٍ رياضية حافلة بالمجهود البدني والتعرق تبعت اللوحات إلى السبا، في الطريق حوض سباحةٍ داخلي، هواؤه رطب ودافئ شبيه بالطقس الاستوائي، ثم شابان يتنافسان في ملعب السكواش، وكثيرٌ من البشر في ملابس رياضيةٍ ملونة في الصالة الرياضية هل تٌعاني من التوتر والضغوط يا سيدي؟” قالت موظفة السبا؟، أجبت: لست متأكداً بخصوص التوتر، لكنني لا أمانع القليل من الاسترخاء، أتدرين؟هذا الجو يوترني، عموماً نجحت يداها ورائحة زيت اللافندر في تخليصي من التوتر المزعوم.
وكما هو متوقع تناولت عشائي داخل الفندق في مطعم بريمافيرا. على الباب، استقبلتني فتاتان إيطاليتان رافقتاني إلى طاولة قريبة من المطبخ المفتوح وقدمتا لي النادل الإيطالي، والذي بدوره استدعى الطاهي الإيطالي ليشرح لي مكونات أطباقه الإيطالية. لم أخرج عن المألوف وطلبت شريحة لحم مقطعة، وسلطةً بالخل البلسمي وزيت الزيتون، أطباق بسيطة ومعروفة لكن مكوناتها، وربما لمسة الطليان جعلتاها من ألذ ما يكون، عدت إلى الغرفة وهنأت معدتي بالخيارات الشهية واستسلمت للنوم.

اليوم الثاني في البحرين

فتحت الستارة باستخدام الزر العجيب وأنا أتأمل خيراً، كانت الشمس مشرقةً بالخارج لكن أشجار النخيل تئن تحت وقع الريح، ارتديت ثياب دافئة وتواصلت مع الكونسييرج لحجز جولةٍ سياحية، وانتظرت المرشد جائع في بهو الفندق أحاول إسكات جوعي بكوبٍ من القهوة. أخبرني المرشد أنه أستاذ جامعة في مجال الهندسة مرخص للإرشاد السياحي ويقوم به هوايةً لأنه يحب البحرين وتاريخها ويعشق الاحتكاك بالسياح.

وصلنا إلى باب البحرين التاريخي، حيث تتراصف صورٌ بالأبيض والأسود على جدران المدخل من أيام الوجود البريطاني لنفس الباب. سرت وفي بدني قشعريرة جميلة وأنا أشاهد الطرق التي بدت حديثةً حتى بمقاييسنا الحالية، ورجال الشرطة والحافلات المدرسية ومعالم التمدن التي تعود إلى زمنٍ بعيد.

تناولنا الإفطار في مقهى زعفران، وطلب المرشد تشكيلة لأتعرف على المذاقات المتاحة، فجاءتنا صينية محملة بأطباق صغيرة، فول ولبن رائب بالعسل والمكسرات وفاصولياء. هذه نعرفها، لكن الجديد كان شطيرةً حلوة بها جبنةٌ مالحة تُسمى زنجباني، وأخرى سادة بها كرةٌ صفراء لذيذة مصنوعة من البطاطا المهروسة والمقلية، شبيهة بمفهوم الفلافل، ونودلز مقلية بالزعفران، حلوة الطعم يغطيها بيضٌ مقلي، والأهم خبز رقيق شبيه بالصاج اللبناني، به شيء طعمه يشبه الزعتر، “هذه مهياوة”، قال المرشد، وشرح أنها سمك مجفف ومطحون.

بدأنا جولتنا السياحية من بيت الشيخ عيسى بن علي في المحرق، عاصمة البحرين القديمة، حكم الشيخ البحرين ستين عام في القرن التاسع عشر، في بيته امتزجت البساطة والتواضع السائدان في الخليج مع النقوش الإسلامية الجميلة. ثم مشينا إلى بيت ومسجد سيادي المجاور، سيادي هو تاجر لؤلؤ من ذات الحقبة، فهذه التجارة كانت عماد اقتصاد الجزيرة في الماضي، وهو رجل ثري له مجلسٌ وبيت تطغى عليهما علامات الثراء، ويجاوره مسجدٌ بناه التاجر نفسه ومازال يحافظ على رائحة التاريخ الذي شهده.

من هناك توجهنا إلى طريق اللؤلؤ، مشروعٌ ذكي تم إدراجه على قائمة اليونسكو، وهو عبارةٌ عن منازل ومعالم تاريخية تم ترميمها، ومن ثم إدخال أعمال فنية لفنانين محليين، تقع جميعها في منطقة واحدة، شعرت فيها كأنني عدت بالزمن. أخر المعالم قلعة بوماهر، التي كانت حصينة تحرس عودة السفن إلى الجزيرة، ودمرها الإنجليز قبل قرن ونصف، الوصول إليها اليوم ممكن فقط من خلال قارب سريع ينطلق من متحف البحرين الوطني، وأجرتة دينار واحد للشخص ذهاب وعودة.

قصدنا المتحف بالسيارة ومنه استقلينا القارب السريع، امتزجت مشاهد المياه بأفقي المدينة التاريخي والحديث، ويقف البرج الوحيد المتبقي من القلعة قوي. عدنا بالقارب إلى المتحف، الذي يروي تاريخ الجزيرة الممتد لآلاف السنين… هنا الكثير من معالم حضارة دلمون، وأثر الحضارتين الفارسية والإغريقية والإسكندر الكبير، ومن ثم وصول الإسلام، تبعه الحكم الفارسي والبرتغالي والعماني والبريطاني، ثم قسمٌ عن العادات والتقاليد وآخر عن تاريخ الغوص في الجزيرة، التي كانت ثريةً طوال تاريخها ولطالما امتلكت مورداً هام :ً الماء العذب ودبس التمر ومن ثم اللؤلؤ والذهب الأسود، فقد كانت أول دولة خليجية يكتشف فيها البترول.

غابت الشمس والمرشد يروي حكاياتٍ لا عد لها، وانخفضت درجة الحرارة بغيابها فعدت إلى الفندق وتناولت عشائي في كانتينا كالو، نعم كالو الفنانة المكسيكية التي يعرفها الكثيرون من خلال الفيلم الذي يروي قصتها خارج الفندق خمسةٌ من طيور الفلامنغو التشيلي الوردي،وجميع الموظفين مكسيكيون، يروون بحماس قصص أطباقهم والنسخ الأميركية المحرفة منها. تناولت ما تيسر من التاكو بالسمك واللحم وجلوى التشروو المكسوة بالسكر، والتي تغمس في شوكولا ذائبة أو صلصة الجوافة، ويقال أن أصل هذه الحلويات من تشيلي مثل طيور الفلامنغو خارج المطعم.

اليوم الثالث في البحرين

قررت توسيع آفاقي والغوص في عمق الجزيرة، واستأجرت سيارةً توجهت بها أولاً إلى باب البحرين لتناول إفطارٍ من الفول والكبدة والفاصولياء في أول مقهىً بالبحرين، مقهى حاجي. وبعد أن ملأت معدتي وخزان السيارة واصلت إلى قلعة الشيخ سلمان بن أحمد الفاتح بالرفاع جنوب المنامة، والتي جعلها الشيخ سكناً، واستشعرت خلال مروري بالغرف تفاصيل الحياة في ذلك الحين.

أبعد جنوب وصلت إلى محمية العرين، هي في الحقيقة مزيجٌ من حديقة الحيوانات والمحمية الطبيعية، وأشبه بحدائق الحيوانات في أفريقيا، فهي عبارة عن أسوار صغيرة خلفها مساحات شاسعة تركض فيها حمير الوحش والنعام والجاموس والغزلان، فقط الوحوش سورت بشبكٍ متين.

في طريق العودة إلى المنامة لابد من زيارة وجهةٍ أخيرة، أضخم وأهم قلعةٍ في المملكة، قلعة البحرين والتي تعجز كلمة ضخمة عن وصفها. بُنيت القلعة بشكلها الحالي في القرن الرابع عشر، لكنها محاطة بأطلال دلمون وجزءٍ من سورها التاريخي وماتبقى من أطلال قلعةٍ أقدم تُسمى القلعة الإسلامية، وبساتين نخيلٍ خضراء، أما العمارتان الإسلامية والبرتغالية فبارزتان في معالمها. هنا شربت قهوتي الأخيرة وأنا أسلم على الأطلال.